نيويورك البيضاء وكندا المستأجرة- رحلة بين صقيع الشمال وجمال الطبيعة.

عندما وصلتُ نيويورك، وجدتُ الحياة قد اكتست باللون الأبيض، سيطر عليها جمودٌ وبرودة قاسية. الناس هناك يعيشون داخل جدران منازلهم، وكأنهم في سجون اختيارية. درجة الحرارة كانت تهبط إلى ما دون الصفر بكثير، مما أدى إلى توقف شبه كامل للحياة الخارجية، باستثناء تساقط الثلوج المستمر الذي لا يرحم. وجدتُ نفسي في نهاية المطاف حبيسًا في منزل صديقي الكريم الذي استضافني بكرم في منزله الدافئ، في شبه حجز إجباري وغير طوعي برفقة زوجته وأولاده وحيواناتهم الأليفة المحبوبة. حتى خدمة البريد المهمة، والتي تعني الكثير للأمريكيين، توقفت تمامًا، مما أدى بدوره إلى زيادة كبيرة في المكالمات الهاتفية حيث لجأ الجميع إلى هواتفهم للاطمئنان على بعضهم البعض. أصبح التلفزيون وسيلة رائعة للهروب من هذا الكهف الثلجي القاسي، وكان بالفعل نعمة كبيرة لأولئك الذين حُبسوا في منازلهم مثلي. في اليوم التالي، كان من المقرر أن أسافر إلى كندا لحضور مؤتمر علمي مهم. كانت المنطقة التي يُعقد فيها المؤتمر تتمتع بدرجة حرارة مقبولة نسبيًا مقارنة بصقيع نيويورك القارس، إلا أن الأشجار كانت جميعها عارية من الأوراق، ملقاة على الأرض وفي كل مكان، فوق الأرصفة وأسطح المنازل والسيارات وفي الممرات. آه، كدت أن أنسى، كندا بأكملها عبارة عن غابة شاسعة من الأشجار، لدرجة أنك تتخيل أن الناس يخبئون أشجارًا في صدورهم فقط لإثارة استغرابك. كنت أراقب العمال في الصباح الباكر وهم يخرجون بآلاتهم الحديثة والمتطورة، يقومون بكنس الأوراق المتساقطة وجمعها في أكياس كبيرة، ثم يرحلون. ولكن بعد دقائق معدودة، يمتلئ المكان مرة أخرى بمزيد من أوراق الشجر المتساقطة. إحدى هذه الأوراق هي ورقة شجرة القيقب الحمراء الشهيرة، والتي أصبحت رمزًا وطنيًا لكندا. هذا العلم الذي تراه يرفرف بفخر في كل مكان هناك، وكأنه تذكير دائم بأنك في كندا. العلم مكون فقط من لونين أساسيين هما الأحمر والأبيض، وباللون الأحمر رُسمت ورقة شجرة القيقب، أشهر ورقة شجرة في العالم، والتي تحولت إلى رمز وطني. وهو علم جديد نسبيًا، فقد صُمم في الستينيات بعد أن سئم الكنديون من العلم القديم. لذلك، أقاموا مسابقة لتصميم علم جديد، وتقدم رجل بفكرة ورقة شجرة القيقب، وقد كان. أعتقد أن الكثيرين يعلمون أن كندا أرض مؤجرة، نعم، هناك ما يُعرف بـ "عقد إيجار وطني". فالوطن كندا، وعندما غزا الإنجليز والفرنسيون كندا، كانت ملكًا للهنود الحمر. والحقيقة أن الكنديين الأوائل كانوا أكثر أدبًا وتحضرًا من الأمريكيين، فلم يبيدوا الهنود الحمر، بل استأجروا منهم الأرض، وإلى يومنا هذا تعيش قبائل الهنود الحمر التي تقلصت وانعزلت في شمال كندا. وعندما ينشأ خلاف بين هندي أحمر وكندي، يعايره الهندي الأحمر قائلًا: "أنتم لستم سوى مستأجرين!". الإحساس بالجمال والرقي الحقيقي الذي يمكن أن يحتل أكبر مساحة من نفسك يأتيك عندما تقف على ظهر سفينة سياحية تحت شلالات نياجرا المهيبة، حيث الماء في قوته ووحشيته وأسطوريته يجتاح أطنانًا من الثلج بضجيج مدوٍ، بالمعنى الحقيقي والدقيق لكلمة "اجتياح". عندها تشعر أنك مجرد ذرة صغيرة من ذرات هذا الكون الشاسع، وأنك بشر مهما فعلت. وأن هذه الدنيا أقوى من أن تفكر في مواجهتها. كانت تلك لحظة تسليم كاملة وليست لحظة استسلام يائسة، وأنا أتأمل منطقة الألف جزيرة الخلابة، وهي عبارة عن ألف جزيرة بالفعل تقع على الحدود الأمريكية الكندية، كلها ملكية خاصة باستثناء 40 جزيرة فقط مملوكة للدولة. هذه الجزر هي قطع متخيلة من الجنة. لا أريد أن أطيل في وصفي حتى لا يرحل إليها الباحثون عن الحور العين، لكنني سأكتفي بسرد مشهد أشار إليه الدليل السياحي لجزيرة يملكها كاتب كندي مشهور. الجزيرة صغيرة جدًا كحبة قمح، لكنها تحفة فنية بحد ذاتها، تعج بمئات الأشجار والنباتات الخضراء، وتحتوي على مرآب صغير (للقارب) ومنزل ساحر يغطيه القرميد الأحمر. وعلى بعد أمتار قليلة من المنزل، تقع غرفة مكتبه الزجاجية ذات الواجهة الأمامية المطلة على منطقة الألف جزيرة الساحرة. من خلال الزجاج، يمكنك رؤية الكون بأسره. بدا الكنب مريحًا وواضحًا، والمدفأة الحجرية تشتعل بداخلها الحطب المشتعل بمنظرها الجذاب. والكرسي الهزاز يتقدمه مكتب عليه أوراق مبعثرة، تمنيت لو أنها تستطيع أن تطير كما طارت أحلام كثيرة لدى معظم الكتاب السعوديين في امتلاك منزل في (الخرمة).. هي فعلاً الخرمة دي فين؟